Back to Top

أعـيـاد الـمـيـــــلاد

      لحضرة صاحب النيافة مثلث الرحمات
  الأنبا أثناسيوس
      مطران بني سويف والبهنسا السابق

تعود الناس أن يسجلوا تاريخ ميلاد أطفالهم، وتؤكد الدولة أن تسجيل المولود في السجلات الرسمية عمل حتمي يجب على الناس جميعًا تنفيذه.
كان هذا التسجيل يتم سابقًا في القرى في دفتر بدوار العمدة، وكثيرًا ما حدث أنه لم يُعثر على تاريخ ميلاد إنسان في ذلك الدفتر، فكان الإجراء الاستثنائي يسمح بالتوجه إلى طبيب الصحة ليقدر سن إنسان قضى من عمره سنوات كثيرة، وكان هذا التقدير يفيد في تحديد سن الزواج، أو الالتحاق بالجندية، أو الالتحاق بالمدارس، أو الالتحاق بعمل معين، ثم في تحديد عمر إنسان عند وفاته.
وتعود المثقفون أن يحتفلوا بتواريخ ميلاد الأفراد سنويًا، ويسمونها أعياد ميلادهم فتجتمع الأسرة لتحتفل بعيد ميلاد إنسان، ويضيئون عددًا من الشموع بعدد سنوات عمره، ويرددون بعض الأناشيد، ويهنئون ذلك الإنسان ويدعون له بطول العمر والصحة.
ولقد تعود الرومان أن يكتبوا التاريخ تبعًا لتاريخ تأسيس روما التي أسسها الملك رومولوس سنة 753 قبل ميلاد السيد المسيح أما في العهد القديم فكانت تحسب ابتداء من تملك أحد الملوك، مثل قوله "ملك يهورام بن أخاب على إسرائيل في السامرة في السنة الثامنة عشر ليهوشافاط ملك يهوذا ملك اثنتي عشرة سنة" (سفر الملوك الثاني ص3 :1)، وقوله في بداية سفر زكريا عن ملوك الفرس "في الشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس كانت كلمة الرب إلى زكريا بن برخيا بن عدو النبي" (زك 1: 1) وكذلك كانت تفعل جميع الشعوب، بالإضافة إلى وجود تاريخ طويل المدى مثل سنة بداية روما أو سنة السبي مثلما نجد في بداية إنجيل متى، مع محاولة المؤرخ أن يشير إلى حوادث مختلفة تتعلق بتاريخ واحد .. ليساعد على تحديد وقت الحدث .. مثل قول إنجيل لوقا عند ذكر ميلاد السيد المسيح "وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة . وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريا . فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته" (لو 2 : 1 - 3).
أقارب الطفل يسوع:
أما الذين كانوا محيطين بالطفل عند ميلاده، مثلما يجتمع أفراد أي أسرة ليفرحوا بميلاد طفل فيها، فلم يكن أي شخص من الأسرة سوى القديس يوسف.
غريب جدًا أن يكون يوسف ومريم من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى "وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المزود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2 : 4 - 7)، غريب جدًا ألا يكون يوسف في بيت أحد أقاربه بينما كانت بيت لحم مدينته، بل كان يوجد الفندق، الذي كان ينزل فيه الغرباء! وغريب ألا تكون أي من قريباته واقفة مع مريم عندما تضع طفلها!
ولكنه يسوع، وهو الذي يمتلك الكون كله، وُلد غريبًا، وكانت أمه وحدها، وليس معها ولو واحدة من قريباتها! فلعله فضل أن يولد كأفقر الفقراء، ولا يقف معهم أحد من أهل الدنيا، ليكون للفقير والغني.. فلو ولد في قصر لظن الأغنياء أنه ينتمي لطبقتهم، ولظن الفقراء أنه ليس منهم، بل ولد في حال الفقر الكامل ليكون للجميع .. قمطته ووضعته في مزود أي مكان وضع طعام الأبقار وسائر الحيوانات.
ليت كل إنسان يطبق درس المحبة لجميع الناس، فلا يستعلي على أحد، بل يخدم الجميع، ويحب الجميع ويعتبرهم أخوة في كل شيء .. كقول الرسول: "لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله (صورة المجد السماوي) لم يحسب  خلسة أن يكون معادلاً لله (لو بقى في صورة المجد السماوي لما كان مختلسًا لشيء ليس له). لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب." (فيلبي 2 : 4 - 8).
لكن سائر المخلوقات في السماء وعلى الأرض أحاطت بالطفل وهللت ورنمت له، وقدم بعضهم هدايا مفيدة، فمن السماء ظهر "جمهور من الجند السماوي مسبحين الله و قائلين. المجد لله في الأعالي و على الارض السلام و بالناس المسرة" (لو 2 : 13، 14). هؤلاء هم ممثلوا عالم الملائكة والأرواح، ملأوا الجو بأنغام جميلة هي أنغام السلام، وأعلنوا أن المجد السماوي يتهلل مع سكان الأرض.
وجماعة الفقراء الذين كانوا ساهرين في عراء البادية يعانون الصقيع والعواصف يحرسون الأغنام، تحيط بهم بعض الكلاب الرابضة أو الطائفة من حولهم لتواجه شراسة الذئاب وهجماتها المفترسة، هذه المخلوقات بسيطة المظهر، بدائية الحياة، ذات الروح القوية الطبيعية المضحية بالدم من أجل سلامة غيرها من الجنس والدرجة في مستويات النوع والوعي والمعرفة والحق والحياة، هذه الخلائق البسيطة المنطلقة تلقائيًا في حياتها الطبيعية، هي التي حفلت به بأساليبها وطرائقها. فالكلاب عوت معطيًا صراخًا كزغاريد الأفراح، والأغنام همهمت بأصواتها، وتطلعت بعيون براقة في أقبابها كاللؤلؤ الصافي.
أما الرعاة فلم يتملكوا نفوسهم من الفرح والدهشة والرهبة فسجدوا أمام الطفل ومدوا أيديهم ليلمسوه فيستمدوا منه بركات نادرة تسمو على كل كنوز الأرض. ولعلهم قدموا مما يمتلكون : عباءة قديمة من الصوف الخشن، أو فروة من جلد غنمة ذبحوها لأحد التجار فأخذ ما بداخلها من اللحم والشحم وتركها للرعاة يعالجونها ليستعملوها مفرشًا ينامون عليه يخيطونه بطانة لأرديتهم.
فابتسم لهم الطفل الإلهي وانطلقت منه إشعاعات أضاءت قلوبهم واستجابت لدعائهم، فمنحتهم برًا وبركة.
يا سيدي الطفل الإلهي:
هللت السماء والأرض بقدومك إلى الأرض . فرحت السماء لأنها رأت باب الجحيم على وشك أن يفتح، وسلاسله المعدنية تصطك وتتأوه لأنها وطيدة أن تُكسر، وأقفاله تتشقق إذ هي قريبة من أن تتفكك وتتطاير أشلاء، وأعلامه ترفع، وراياته تنكس، وقديسوه ينتعشون، وأشراره وشياطينه يقشعرون ويتمزقون.
سيدي الطفل الإلهي:
أين موضعي من هؤلاء جميعًا؟ أين موضعي على الأرض من الخلائق المجاهدة، وفي السماء من المنتصرين المعززين؟!!
هل لي أن أسجد عند قدميك كاسرًا قلبي ذبيحة حب وإيمان وتقديس وتبعية تلمذة صادقة! وهل لي على الرغم من رجاسات قلبي أن أكون في الآخرة من الذين يقولون: "قدوس قدوس قدوس السماء والأرض مملوءتان من مجدك".
وهل لي من إنحناءة طويلة ألثم قدميك والأرض التي تتطآنها فتصير محرابًا للتسبيح والتعليم والتقوى! هل لي أن أستمر في النشيد والتأمل ما تبقى لي من العمر، وأصرخ صرخة من الأعماق لعلي أتحد بالقديسين في كل اتجاهات المسكونة والسماء .. صرخة لا تتوقف، وتزيدني فرحًا على مر الزمن اللانهائي: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".