Back to Top

العذراء والاحتمال

العذراء مريم

لا يمكن أن يمر خلاص البشرية وفداؤها بدون أن يرافقها الآلم إذ أن فادينا هو يسوع المتألم رجل الأوجاع، والأم العذراء كنفس اتحدت به وسلمت له مشيئتها بالتمام، تناديه في سفر النشيد (ليقبلني بقبلات فمه)، فالفم الذي ارتشف الخل حينما تقابل مع العذراء وقبلها طبع على جبينها الألم حتى ملأ كل موضع فيها ومع أن أثار قبلة يسوع لأمه خل ومرارة إلا أنها كانت تطلب لا قبلة واحدة بل كل قبلات فمه.

لقد عاشت القديسة مريم حياة كلها ألم وكلها احتمال وكانت المعاناة تصاحب سيرتها حتى قبل ميلادها.

1- لقد كانت أمها عاقرًا وفي هذا صليب وألم وعار في العهد القديم فالبنون ميراث من الرب (مز 127 : 3) وكل أم كانت تتمنى أن يولد منها المسيا المنتظر.

2- وحين صار سنها ثلاث سنوات قُدمت للهيكل، طفلة محتاجة للرعاية والحنان والاهتمام وتفطم في هذا السن الصغير من الأب والأم وفي سن 6 سنوات مات أبوها وفي عمر 8 سنوات ماتت أمها.. حرمت من الأب والأم.. وهكذا حرمت من المنظور بالشبع باللامنظور أي الشبع بالله وحبه وحنانه والامتلاء به والاكتفاء به وتعيش في هذا الاختبار الذي لداود النبي "معك لا أريد شيئًا في الأرض" (مز 73 : 5).
لقد أعد الله الظروف المناسبة لتنشئة العذراء على أحسن وجه فكان مستحسنًا في التدبير الإلهي أن تعاني القديسة مريم منذ سن مبكر هذا الحرمان الذي لم يكن في ذاته هدفًا لكنه كان سببًا يدفعها للتعويص، فاقتربت أم النور إلى صدر إلهنا الحنان تختبر البنوة في اتكالها والتجائها وتلتمس الأبوة في حنانها ومحبتها.

3- حين تيتمت العذراء من والديها كان كل عزائها وملء حياتها في الهيكل والمذبح والصلاة والآن عليها أن تمر في أمر تجربة إذ بلغت السن القانوني ولابد أن تغادر الهيكل الذي صار جزءًا منها أو هي جزء منه في ذلك المكان الذي عاشت فيه مع الله ولمسته وأحبته. لقد أخذت منه كما لو كانت تنتزع من مكانها المحبوب نزعًا أو تُقتلع أقتلاعًا.. لقد ارتبطت بالهيكل نفسيًا وحسيًا. فكل ركن من أركان الهيكل له في حياتها ذكريات سعيدة لم تستطع المطوبة أن تكون كما أرادت إلا أن طباعها الهادئة الوديعة قبلت الأوضاع وكان عزيزًا عليها أن تترك الهيكل لكن كان أعز عليها أن تفقد سلامها.. وفي ملء الطاعة رضيت فحملت معها قلبها الوادع إلى البيت الجديد.

4- وحينما كان على القديسة مريم أن تترك الهيكل لم يكن لها من يعولها، فعمل كهنة الهيكل اجتماعًا ليبحثوا أين تذهب، ثم بعد الصلاة استقر الأمر أن تخطب ليوسف البار وقد ناهز عمره الستين عامًا دون أن يأخذوا رأيها. وقبلت أن تخطب لنجار فقير بالكاد يحصل على قوته.. واحتملت وقبلت أن تخدم هذا الشيخ وتشتغل بيديها لتساعده على المعيشة، وكان اختيار يوسف بناء على علامة من الله.

5- ذهبت القديسة مريم إلى بيت يوسف لتأتي لها البشارة العجيبة.
بنت صغيرة بتول عمرها 14 سنة يقول لها الملاك ستحبلين وهي لا تعرف رجلاً.. أمر من الصعب دخوله في أكبر العقول.. فكيف يدخل هذا الأمر عقل فتاة صغيرة.. خصوصًا أن هذا الحدث هو الأول والأخير في تاريخ البشرية كلها.. لكن هذه الفتاة الصغيرة تقبلته بالإيمان قائلة "ليكن لي كقولك".
إذا افتقد الإنسان المرشد الأمين يكون الله هو المرشد والأب والأخ والصديق.. العذراء تلاقت مع الله ولازمته وعاشت في كنفه ليس لها مدبر يرعاها ويرشدها إلا الله.. ما موقفها وهي حبلى أمام يوسف لعلها لم تفكر في هذا وتركته لله ليحله. وفعلاً أرسل الحل بالرؤيا ليوسف حين قالت القديسة مريم للملاك " ليكن لي كقولك".. كان عندها الاستعداد حتى للموت ولكل أنواع الأخطار بالبذل والاحتمال.. وضعت نفسها للطاعة مهما كانت النفقة.

6- سمعت من الملاك أن أليصابات حبلى فقامت ومشت في الجبال والتلال مسافة حوالي 177 كيلو مترًا لتهنئتها وخدمتها.. إنها مسافة طويلة جدًا.. ومتعبة جدًا.
لقد احتملت القديسة مريم أتعاب السفر وأتعاب خدمة أليصابات لتكون مثلاً لنا في الاحتمال والبذل ومحبة التعب من أجل الآخرين.

7- لقد رجعت القديسة مريم إلى الناصرة بعد ثلاثة شهور لتجوز ألمًا أكبر وتحتمل تجربة أصعب وهي مواجهة شكوك يوسف في حبلها.
لقد أخذها القديس يوسف من الهيكل كشيء مقدس من قبل الله ولقد تعهدت بالبتولية، وعقل القديس يوسف لم يكن بالدرجة التي يتفهم بها الحبل البتولي مما جعله يفكر في تخليتها سرًا ، أي إبعادها عن بيته سرًا ودون أن يعلم أحد السبب. لعل الأم العذراء مريم الممتلئة نعمة ساورت ابنها قائلة: أيها الحق الذي انظلمت به.. أشرق حقك ولا تحجب عن يوسف حقيقة أمك، ولا تتركه يختنق بالشكوك. فأتاه ملاك روحاني وقال له: يا ابن داود لا تخف لأن الحال في مريم هو ابن الله العلي بالحقيقة هذا الذي كرز به إشعياء قائلاً: "هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا" (إش 7 : 14).. استيقظ يوسف متعجبًا مندهشًا فنظر إلى الطاهرة مريم قائلاً "السلام لكِ يا أم الملك لأن الحال فيكِ هو رب الملائكة".
وحين قرب موعد ولادة العذراء صدر الأمر بالاكتتاب، ولقد كان من الأفضل والأكثر راحة أن تلازم المنزل لكن كانت إرادة الله أن تلد في بيت لحم وتسافر في رحلة شاقة مسافة 140 كيلو مترًا راكبة على حمار وسط الجبال لأيام طويلة.. كم احتملت القديسة مريم في هذا الأمر الصعب وكم قاست وكم شقيت.. ولكن دائمًا الآلام تلازم الأمجاد.
وإذ حانت ولادة مخلص العالم لم يجد القديس يوسف مكان لتلد فيه العذراء إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.. لحظات حرجة وحساسة يا ترى أي مشاعر جازت في قلبك يا أم النور في ذلك الوقت إذ تبحثين عن مكان لولادتك ولا باب منزل قبل يفتح لكِ!؟ كم احتملتِ؟ كم قاسيتِ؟ ماذا فعلتِ في ذلك الوقت الحرج؟ لقد تعودتِ الصمت ولعلك اتبعتِ الطريق الذي اتبعتيه دائمًا برفع قلبك بالصلاة لله، ترى ماذا قلتِ.. لعلك صليتِ قائلة: يا ابني وأنت في أحشائي مقيم، يا جابلي وأنا أمك وأمتك.. أنظر أنا لا أجد مكانًا لميلادك يا خالق الكل.. ودائمًا السماء تستجيب لذلك القلب الطاهر. وحين وجد يوسف مكانًا لولادة العذراء كان أغرب مكان، وهو حظيرة مواشي، وسرير الطفل مذود أبقار. واحتملت القديسة مريم في صمت.. لقد قمطت ذلك الذي يغطيه النور كثوب (مز 104 : 2) لقد أضجعت في مذود ذلك الجالس على الشاروبيم، لم يكن موضع لذلك الذي أوجد كل الأرض، وكانت تقوته باللبن.. ذاك الذي يقوت الكل ويهب الحياة لكل كائن حي.. وقمطت بالخرق ذاك الذي يصور المسكونة كلها.. وأضجعت في مذود الجالس فوق الشاروبيم.
واحتملت القديسة مريم في ولادتها عدة آلام منها آلام الغربة.. أن تلد في بلد غريبة لا تعرف فيها أحد وليس بها استعدادات.
لقد احتملت القديسة مريم كل هذا في صمت.. إنها الشخصية التي تعودت أن تتمتع بالسلام رغم خشونة الظروف.

8- صعدت القديسة مريم بالطفل يسوع إلى الهيكل مع يوسف ليصنعا عنه كما يجب في الناموس (لو 2 : 27).
لقد أحضرت القديسة مريم طفلها الرب يسوع وقدمته للهيكل كأعمق ما يحمله فريضة الأبكار من معان.. إنها مع يوسف البار تصعده إلى الهيكل معترفة بحق الله على طفلها.
تعزت بلقاء سمعان الشيخ وبسماعها نبوته عن مستقبل ابنها حين قال: عيناي قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام جميع الشعوب ونورًا أعلن للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل (لو 2 : 22)، لكن إذ يكمل حديثه قائلاً وأنت يجوز في نفسك سيف فيمتزج الفرح بالحزن، وإلهنا في حكمته لم يمنع عنها الآلام حتى لو كانت أمه.
إن إلهنا رسم طريق الصليب لنفسه من بدء تجسده وهو ما زال طفلاً على كتف أمه وينكشف الصليب الذي فيه تحمل ابن الله لأجلنا أقسى وحشيات البشر.. وكل هذا يقع على قلب أمه وقع السيف الحاد يجوز في قلبها الدقيق. وعادت مريم أدراجها تتأمل فيما سمعت فإن كل كلمة تحمل نبوات المستقبل، وكان أشقها على نفسها أنه يجوز في نفسها سيف. هذا ما انتظرته العذراء ما يقرب من 33 سنة تقف تحت الصليب تتطلع إلى الابن الحبيب وفي الحشا أنين إذ رأت قطعة منها تذوب وأن اليدين والرجلين والجنب والجبين ينزفان الدم الثمين.. في ذلك الوقت جاز في نفسها السيف.